ما هي أنواع الذاكرة وكيف تؤثر على قدرتنا على استرجاع المعلومات؟
الذاكرة هي أحد أكثر العمليات المعرفية تعقيدًا وأهمية في الدماغ البشري، فهي تمكننا من تخزين المعلومات واسترجاعها، مما يسمح لنا بالتعلم والتكيف مع البيئة المحيطة. تُعتبر الذاكرة نظامًا متعدد الأوجه يتضمن عدة أنواع ومكونات تعمل معًا لمعالجة المعلومات بدءًا من المدخلات الحسية ووصولًا إلى التخزين طويل الأمد. على الرغم من التقدم الكبير في فهمنا للذاكرة، إلا أن هذا الموضوع لا يزال يحظى باهتمام كبير في الأبحاث العلمية، خاصة في مجالات علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي. في هذا المقال، سنستعرض الأنواع الرئيسية والفرعية للذاكرة، مع شرح وظيفة كل نوع ومكان وجوده في الدماغ، مستندين إلى أحدث الأبحاث العلمية.
الذاكرة الحسية (Sensory Memory)
• الوظيفة: تحتفظ بالمعلومات الحسية الخام لفترة قصيرة جدًا (أقل من ثانية إلى بضع ثوانٍ) قبل أن تختفي أو يتم نقلها إلى الذاكرة قصيرة المدى.
• الأنواع:
o الذاكرة الأيقونية (Iconic Memory): تتعلق بالمعلومات البصرية.
o الذاكرة الصوتية (Echoic Memory): تتعلق بالمعلومات السمعية.
o الذاكرة اللمسية (Haptic Memory): تتعلق بالمعلومات اللمسية.
• مكانها في الدماغ: تعالج المعلومات الحسية في المناطق الحسية الأولية في القشرة المخية، مثل القشرة البصرية (Occipital Lobe) للمعلومات البصرية، والقشرة السمعية (Temporal Lobe) للمعلومات السمعية.
الذاكرة قصيرة المدى (Short-term Memory)
• الوظيفة: تحتفظ بالمعلومات لفترة محدودة (بضع ثوانٍ إلى دقيقة) ما لم يتم تكرارها أو نقلها إلى الذاكرة طويلة المدى.
• السعة: حوالي 7 ± 2 عناصر (وفقًا لنظرية جورج ميلر).
• مكانها في الدماغ: ترتبط بشكل رئيسي بالفص الجبهي (Prefrontal Cortex)، الذي يلعب دورًا في الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها مؤقتًا.
الذاكرة العاملة (Working Memory)
• الوظيفة: نظام نشط يعالج المعلومات ويحتفظ بها مؤقتًا أثناء القيام بالمهام المعرفية المعقدة.
• وتتكون من وفقًا لنظرية بادلي:-
o الرئيس التنفيذي المركزي (Central Executive): يدير الانتباه ويوزع الموارد بين المكونات الأخرى.
o الحلقة الصوتية (Phonological Loop): يتعامل مع المعلومات اللفظية والسمعية.
o المسجل البصري المكاني (Visuospatial Sketchpad): يتعامل مع المعلومات البصرية والمكانية.
o المنطقة العازلة العرضية (Episodic Buffer): يدمج المعلومات من الذاكرة العاملة والذاكرة طويلة المدى.
• مكانها في الدماغ: تعتمد على شبكة من المناطق الدماغية، بما في ذلك الفص الجبهي (Prefrontal Cortex) والفص الجداري (Parietal Lobe).
الذاكرة طويلة المدى (Long-term Memory)
• الوظيفة: تحتفظ بالمعلومات لفترات طويلة (من ساعات إلى سنوات أو مدى الحياة)
• الأنواع الرئيسية:
o النوع الاول من الذاكرة طويلة المدى : الذاكرة الصريحة (الواعية) Explicit Memory:وتتكون من:-
النوع الاول من الذاكرة الصريحة : الذاكرة الدلالية (Semantic Memory): تتعلق بالمعرفة العامة والحقائق. مكانها في الدماغ: القشرة المخية (Cerebral Cortex)، خاصة الفص الصدغي.
انواع الذاكرة الدلالية هي :-
1. الذاكرة اللغوية (Lexical Memory)
تتعلق بتخزين المفردات، المعاني، القواعد اللغوية.
تُستخدم لفهم الكلمات والجمل وإنتاج اللغة.
مثال: معرفة معنى كلمة “كتاب” أو قواعد النحو في اللغة العربية.
2. الذاكرة التصنيفية (Categorical Memory)
تخزن المعلومات حول تصنيف الأشياء وفقًا للخصائص المشتركة.
تساعد في التفكير التجريدي والتعرف على الأنماط.
مثال: معرفة أن الكلاب تنتمي إلى فئة الحيوانات، وأن السيارات تنتمي إلى فئة المركبات.
3. الذاكرة الواقعية (Factual Memory)
تخزن الحقائق والمعلومات العامة عن العالم.
لا ترتبط بحدث شخصي معين، بل تعتمد على التعليم والخبرة الثقافية.
مثال: معرفة أن الأرض تدور حول الشمس، أو أن الماء يتكون من الهيدروجين والأكسجين.
4. الذاكرة المكانية (Spatial Semantic Memory)
تتعلق بتخزين المعلومات حول الأماكن والاتجاهات.
تعتمد على الحُصين والقشرة الجبهية.
مثال: معرفة موقع برج إيفل في باريس أو اتجاهات الشمال والجنوب.
5. الذاكرة العددية (Numerical Memory)
تتعلق بتخزين المفاهيم العددية والرياضية.
تُستخدم في الحسابات اليومية وحل المشكلات الرياضية.
مثال: معرفة أن 2 + 2 = 4، أو فهم مفهوم الجذر التربيعي.
6. الذاكرة الثقافية والتاريخية (Cultural & Historical Memory)
تخزن المعلومات عن التاريخ والثقافة والمعتقدات المشتركة بين الأفراد في المجتمع.
مثال: معرفة أن الثورة الفرنسية حدثت عام 1789، أو أن ابن سينا كان عالمًا مسلمًا في الطب.
7. الذاكرة الإجرائية الدلالية (Semantic Procedural Memory)
تتعلق بتخزين المعرفة حول كيفية تنفيذ المهام بدون الحاجة إلى تجربة شخصية.
تختلف عن الذاكرة الإجرائية لأنها تعتمد على المعرفة النظرية بدلاً من المهارات الحركية.
مثال: معرفة كيفية كتابة تقرير رسمي، أو كيفية استخدام برنامج معين دون الحاجة إلى خبرة مباشرة.
النوع الثاني من الذاكرة الصريحة : الذاكرة العرضية (Episodic Memory): تتعلق بالأحداث الشخصية والتجارب. مكانها في الدماغ: الحُصين (Hippocampus) والفص الصدغي (Temporal Lobe).
انواع الذاكرة العرضية هي :-
1. الذاكرة الذاتية (Autobiographical Memory)
تتعلق بالأحداث الشخصية التي تجسد هوية الفرد.
تتداخل مع الذاكرة الدلالية في بعض الأحيان، لكن الفرق أن المعلومات تكون مرتبطة بتجارب شخصية مباشرة.
مثال: تذكر أول يوم دراسي لك، أو رحلتك الأولى إلى بلد جديد.
2. الذاكرة السياقية (Contextual Memory)
تخزن المعلومات مع السياق الذي حدثت فيه (الزمان، المكان، الأشخاص، المشاعر).
تساعد في استرجاع الذكريات بشكل أكثر وضوحًا عند التعرض لمحفز مشابه للسياق الأصلي.
مثال: تذكر تفاصيل حفلة عيد ميلادك عند سماع نفس الأغنية التي كانت تُشغل خلالها.
3. الذاكرة العاطفية (Emotional Episodic Memory)
تتعلق بتخزين الذكريات التي ارتبطت بمشاعر قوية، مما يجعلها أكثر رسوخًا.
تعتمد على اللوزة الدماغية (Amygdala)، التي تعزز استرجاع الذكريات العاطفية.
مثال: تذكر حادث سيارة تعرضت له لأن الخوف عزز ترسيخ الحدث في دماغك.
4. الذاكرة الزمنية (Temporal Memory)
تخزن المعلومات حول ترتيب الأحداث وتسلسلها الزمني.
ضرورية لفهم متى وقعت الأحداث بالنسبة لبعضها البعض.
مثال: تذكر أنك تناولت الإفطار قبل أن تذهب للعمل صباحًا.
5. الذاكرة التوقُّعية (Prospective Memory)
تتعلق بتذكر أشياء يجب عليك فعلها في المستقبل.
تعتمد على الانتباه والتنظيم العقلي.
مثال: تذكر أنك تحتاج إلى حضور اجتماع عمل غدًا في الساعة 10 صباحًا.
6. الذاكرة التفصيلية (Highly Superior Autobiographical Memory – HSAM)
نوع نادر من الذاكرة العرضية يتميز بقدرة غير عادية على تذكر التفاصيل الدقيقة للأحداث الشخصية الماضية.
الأشخاص الذين يمتلكون هذه الذاكرة قادرون على استرجاع الأيام والتواريخ بدقة عالية جدًا.
مثال: شخص يتذكر بالضبط ما فعله في يوم 15 مايو 2012 دون الحاجة إلى مذكرات أو صور.
o النوع الثاني من الذاكرة طويلة المدى : الذاكرة الضمنية (اللاواعية) Implicit Memory:
الوظيفة: تخزين المعلومات أو المهارات التي يتم استدعاؤها تلقائيًا ودون وعي. تتعلق بالأمور التي نقوم بها بشكل تلقائي أو معتاد.
تجربة العالم ليونيل استانتنج عام 1973
تجربة العالم ليونيل استانتنج عام 1973 التي اثبت فيها ان الذاكرة الضمنية ليست محدودة بمساحة معينة وهي تقول ( وقد عُرض على الأشخاص الخاضعين للتجربة مجموعة أولية من الصور، وبعد مرور يومين عُرض عليهم مجموعة ثانية من الصور. تتكون المجموعة الثانية من أزواج من الصور، كل زوج يحتوي على صورة واحدة كانوا قد رأَوْها في المجموعة الأولى، والصورة الأخرى لم يَرَوْها من قبلُ. وطُلب من المشاركين تحديد الصورة التي رأَوْها من قبلُ. فإذا كان أداؤهم في تحديد الصور التي عُرضت عليهم في المجموعة الأولى أفضل من المتوسط، زيد عدد الصور. وفي نهاية المطاف نَفِدَ التمويل الخاص بستاندينج عندما بلغتِ المجموعة التي يتم عرضها بشكل أولي إلى ١٠ آلاف صورة، واستمر أداء المشاركين عند هذا المستوى أفضل من المتوسط في تحديد الصور التي عُرضت عليهم لأول مرة.)
o انواع الذاكرة الضمنية:-
أ. الذاكرة الإجرائية Procedural Memory :
• الوظيفة: تخزين المهارات الحركية والإجراءات التي نكتسبها مع الزمن.
• مثال: قيادة السيارة أو ركوب الدراجة، حيث نستطيع القيام بها دون الحاجة إلى التفكير في كيفية القيام بكل خطوة.
ب. التهيئة Priming :
• الوظيفة: تأثير التعرض السابق لمثيرات معينة على استجابتنا لاحقًا لمحفزات مشابهة، دون وعي منا.
• مثال: إذا رأيت صورة لفاكهة تفاحة، فإنك قد تكون أكثر استعدادًا لتذكر أو التعرف على كلمة “تفاحة” لاحقًا، حتى وإن لم تفكر فيها مباشرة.
ج – التكييف الكلاسيكي (Classical Conditioning): الربط بين محفزين. مكانها في الدماغ: اللوزة الدماغية (Amygdala) والمخيخ.
د – التعلم بالتعود (Priming): تأثير التعرض لمحفز معين على استجابة لاحقة. مكانها في الدماغ: القشرة المخية.
5. أنواع أخرى من الذاكرة:
• الذاكرة الانفعالية (Emotional Memory):
o الوظيفة: تخزين الذكريات المرتبطة بالمشاعر والعواطف. يمكن أن تكون هذه الذكريات مرتبطة بأحداث معينة أثارت مشاعر قوية.
o مثال: شخص تعرض لحادث سيارة قد يشعر بالخوف أو التوتر عند سماع صوت الفرامل المفاجئ، حيث تستعيد ذاكرته الانفعالية مشاعر الخوف المرتبطة بالحادث.
o مكانها في الدماغ: اللوزة الدماغية (Amygdala).
• الذاكرة المستقبلية (Prospective Memory): تتذكر القيام بمهام مستقبلية (مثل تذكر موعد). مكانها في الدماغ: الفص الجبهي (Prefrontal Cortex).
اين تذهب جميع المعلومات التي يتم قرأتها بعد فترة من الزمن ؟؟
و الاجابة هي :- ان المعلومات التي نقرأها أو نتعلمها تؤثر على سلوكنا حتى إذا لم نكن ندرك تأثيرها بشكل مباشر. هذه الفكرة تتصل بتأثير الذاكرة الضمنية على السلوك. على الرغم من أن المعلومات قد لا تظل في الذاكرة الصريحة، حيث يمكننا استدعاؤها بشكل واعٍ، إلا أنها قد تظل مخزنة في شكل ذاكرة ضمنية تؤثر على سلوكياتنا وقراراتنا بشكل غير مباشر.
بمعنى آخر، حتى إذا لم نتذكر بشكل واعٍ كل ما قرأناه، فقد تُشكِّل هذه المعلومات التوجهات، والمهارات، والعادات التي نعتمد عليها في حياتنا اليومية دون أن نكون مدركين لها تمامًا. هذه هي طريقة عمل الذاكرة الضمنية، حيث يؤثر التعلم والخبرات السابقة على أدائنا وسلوكنا، مثلما يحدث عند تعلم قيادة السيارة أو اكتساب مهارات اجتماعية معينة، حيث يمكن أن تؤثر تلك المهارات والخبرات المكتسبة على تصرفاتنا وسلوكنا دون وعي منا.
على سبيل المثال:
إذا كنت قد قرأت كتبًا أو مقالات عن الذكاء العاطفي في الماضي، قد تجد نفسك تتفاعل بشكل أكثر هدوءًا وتحكمًا في المواقف العاطفية، دون أن تتذكر تحديدًا النصائح أو الأفكار التي قرأتها. هذا التأثير يكون نتيجة المعلومات التي تم الاحتفاظ بها على مستوى ضمني وتشكلت من خلالها استجاباتك وسلوكك.
إذن، المعلومات التي تتعلمها قد لا تبقى في ذاكرتك الصريحة على المدى الطويل، لكنها لا تختفي بالكامل، بل قد تُستخدم بشكل غير واعٍ وتؤثر على سلوكياتك وقراراتك اليومية، مشكِّلة جزءًا من تكوينك النفسي والمعرفي.
آلية عمل الذاكرة طويلة المدى:
المعلومات تمر بعدة مراحل حتى تصل إلى الذاكرة طويلة المدى. عندما نتعرض لمعلومات جديدة، فإنها تمر أولاً عبر الذاكرة الحسية، ثم إلى الذاكرة قصيرة المدى، وإذا تم تكرار المعلومات أو كانت مرتبطة بمشاعر قوية أو ذات معنى خاص، يتم تخزينها في الذاكرة طويلة المدى. هنا تعتمد فعالية التخزين على التشفير العميق مثل الفهم أو الربط بالمعلومات السابقة بدلاً من مجرد الحفظ السطحي.
أهمية الذاكرة طويلة المدى:
• التعلم: تمكننا من حفظ المعرفة والمهارات المكتسبة على مدى الزمن.
• الهوية الشخصية: تربطنا بتجاربنا الشخصية وتخلق إحساسًا بالذات والهوية.
• اتخاذ القرارات: تساعدنا في استدعاء المعلومات السابقة لتوجيه القرارات المستقبلية.
خاتمة
الذاكرة هي نظام معقد ومتعدد الأوجه يلعب دورًا محوريًا في حياتنا اليومية. على الرغم من التقدم الكبير في فهمنا لآليات الذاكرة، إلا أن هناك الكثير مما لا نعرفه بعد. الأبحاث مستمرة في استكشاف كيفية تخزين المعلومات واسترجاعها، وكيفية تفاعل الذاكرة مع العمليات المعرفية الأخرى. هذا المقال يقدم نظرة عامة على الأنواع الرئيسية والفرعية للذاكرة، لكنه ليس سوى جزء بسيط من الصورة الكبيرة. مع تطور تقنيات التصوير العصبي والأبحاث الجينية، نتوقع اكتشافات جديدة ستغير فهمنا للذاكرة بشكل جذري.
المصادر:
1. Baddeley, A. D., & Hitch, G. (1974). Working memory. Psychology of Learning and Motivation, 8, 47-89.
2. Squire, L. R., & Zola-Morgan, S. (1991). The medial temporal lobe memory system. Science, 253(5026), 1380-1386.
3. Tulving, E. (2002). Episodic memory: From mind to brain. Annual Review of Psychology, 53(1), 1-25.
4. Eichenbaum, H. (2004). Hippocampus: Cognitive processes and neural representations that underlie declarative memory. Neuron, 44(1), 109-120.
5. LeDoux, J. E. (2000). Emotion circuits in the brain. Annual Review of Neuroscience, 23(1), 155-184.