الإنجرام والمسارات والتشفير

زمن القراءة: 3 دقائق

الذكريات ليست مجرد صور أو مشاهد ثابتة نخزنها في الدماغ، بل هي نتاج تفاعلات معقدة بين الخلايا العصبية في شبكات تسمى “الإنجرام” (The Ingram). هذا النظام يتيح توزيع الذكريات على مختلف أجزاء الدماغ، حيث تصبح عملية استرجاع الذكريات مرتبطة بتفعيل المسارات العصبية (Neural pathways) التي نشأت أثناء التشفير الأولي (Primary Encryption). التكرار والاستخدام المستمر لتلك المسارات يعزز الترسيخ (Consolidation) ويجعل الذكريات أكثر وضوحًا ودقة.

كيف تشكل الذكريات؟ فهم أساسي للتعلم والتذكر

ساد الاعتقاد قديمًا أن الذكريات عبارة عن صور كاملة يتم تخزينها كما هي في الدماغ، لكن الباحثين مثل جوزيف لودو (1998) أكدوا أن الذكريات ليست ثابتة أو كاملة كما كان يُعتقد. الدماغ لا يستطيع تحمل تخزين ذكريات متكاملة كما الكاميرا؛ لأن سعة الخلايا العصبية ستنفذ قبل مرحلة البلوغ بكثير. بدلاً من ذلك، الذكريات تُخزن في أجزاء ويتم إعادة بنائها عند الاسترجاع وفقًا للنظام العصبي الذي تم تفعيل الذكرى من خلاله.

مثال توضيحي: تخيل أنك حضرت حفل موسيقي، وذاكرتك للحفل ليست فقط مشهد الفرقة على المسرح، بل تشمل أصوات الموسيقى، أجواء المكان، والمشاعر التي شعرت بها. عند استرجاع هذه الذكرى، دماغك يعيد بناء الحفل استنادًا إلى التفاصيل المتوفرة في شبكة الذاكرة الخاصة بك.

الإنجرام (The Ingram): ما هو وكيف يؤثر على الذاكرة؟

الإنجرام (Engram) هو الوحدة الأساسية في علم الأعصاب لتخزين الذكريات. بحسب الباحث شاكتر (2001)، الإنجرام هو مجموعة من التغييرات الفيزيائية أو الكيميائية التي تحدث في الدماغ أثناء تكوين الذكرى. هذه التغييرات توزع الذكريات في جميع أنحاء الدماغ وتربطها بشبكة عصبية. الإنجرام يمثل البصمة المادية للذاكرة، وعندما نحاول استرجاع ذكرى معينة، تقوم الخلايا العصبية بتنشيط هذه الشبكة لتعيد لنا الذكرى.

مثال: لنقل أنك تعلمت قيادة السيارة. كلما قمت بقيادة السيارة، يُنشط الإنجرام المرتبط بهذه المهارة في دماغك. مع مرور الوقت، تصبح العملية أسهل وتصبح الذكرى (أي المهارة) أكثر رسوخًا.

المصدر: شاكتر، علم الذاكرة: كيف نخزن ونتذكر المعلومات

المسارات العصبية والترسيخ: كيف تزداد قوة الذكريات؟

كل إنجرام مرتبط بمسار عصبي محدد، وهذا المسار يُمثل الطريق الذي تتبعه المعلومات لتصل إلى الذاكرة. عندما يتم استخدام المسار العصبي بشكل متكرر، يصبح أقوى وأوضح. هذه العملية تُعرف بـ”الترسيخ”، وهي تشبه الطريق الذي يُستخدم بشكل متكرر؛ كلما سار الناس على هذا الطريق، أصبح أكثر وضوحًا وسهولة في الاستخدام. إذا تم تكرار الذكرى بشكل مستمر، تصبح المسارات العصبية أكثر كفاءة، مما يسهل عملية التذكر.

مثال توضيحي: إذا كنت تسترجع رقم هاتف بشكل متكرر، فإن المسارات العصبية المرتبطة بهذا الرقم تصبح أقوى، مما يسهل عليك تذكر الرقم في المستقبل.

المصدر: جوزيف لودو، 1998 المخ العاطفي

عملية التشفير: كيف يحفظ الدماغ المعلومات؟

التشفير هو العملية التي يستخدمها الدماغ لتحويل المعلومات إلى شكل يمكن تخزينه في الذاكرة. عند استقبال معلومات جديدة، يتم تشفيرها بناءً على طبيعتها، سواء كانت بصرية، صوتية، أو حسية. بعد تشفير المعلومات، يتم ربطها بإنجرام محدد في الدماغ لتسهيل استرجاعها لاحقًا.

مثال على التشفير: عندما تقرأ كلمة “سيارة”، يقوم الدماغ بتشفير المعلومات بناءً على صورة السيارة وصوت الكلمة وطريقة كتابتها. هذا التشفير يُتيح للدماغ تخزين مفهوم السيارة بشكل متكامل.

المصدر: كريس فريث، 2007. “كيف يعمل الدماغ

أنواع التشفير وتأثيرها على تخزين الذكريات

هناك عدة أنواع من التشفير، وكل نوع يعتمد على طبيعة المعلومات وكيفية استقبالها:

  • التشفير الدلالي (Semantic encryption): يعتمد على المعنى والمفاهيم. على سبيل المثال، عندما تسمع كلمة “طاولة”، تربطها بفكرة الطاولة ووظيفتها.
  • التشفير الصوتي (Audio encryption): يعتمد على الصوت. على سبيل المثال، تذكر الشعر أو الأرقام بناءً على الطريقة التي سمعتها.
  • التشفير البصري (Visual encryption): يعتمد على الصور. على سبيل المثال، تذكر شكل الغرفة التي زرتها بناءً على صورة ذهنية لها.
  • التشفير الحسي (Sensory encryption): يعتمد على الحواس مثل الشم أو التذوق. على سبيل المثال، تذكر رائحة معينة تعيد إليك ذكرى تجربة ماضية.

التشفير الدقيق ودوره في تعزيز استرجاع الذكريات

التشفير الدقيق هو العملية التي يتم من خلالها ربط المعلومات الجديدة بمعلومات قديمة في الذاكرة. هذا الربط يجعل من السهل تذكر المعلومات بشكل أسرع وأكثر فعالية. على سبيل المثال، إذا كنت تحاول تذكر اسم شخص جديد اسمه “سعيد”، يمكنك ربط هذا الاسم بشخص آخر تعرفه بنفس الاسم أو بشعور “السعادة”. هذه الروابط العاطفية أو المفاهيمية تُعزز استرجاع الذكرى.
يعتمد التشفير الدقيق على استراتيجيات عقلية مثل إنشاء الروابط بين المعلومات الجديدة والمعلومات المخزنة. كلما كانت هذه الروابط أقوى، كانت عملية استرجاع الذكريات أسرع وأكثر دقة.

مثال آخر: عند دراستك لمفهوم معقد في الفيزياء، يمكنك ربطه بمفاهيم سابقة قد درستها سابقًا، مثل الجاذبية أو الحركة. هذا الربط يعزز استيعابك للمفهوم الجديد ويُسهل استرجاعه لاحقًا.

المصدر: بادلي، 1992. “الذاكرة الإنسانية: نظرية وممارسة“.

مقالات ذات صلة

ما هي أنواع الذاكرة وكيف تؤثر على قدرتنا على استرجاع المعلومات؟

زمن القراءة: 7 دقائقالذاكرة هي أحد أكثر العمليات المعرفية تعقيدًا وأهمية في الدماغ البشري، فهي تمكننا من تخزين المعلومات واسترجاعها، مما يسمح لنا بالتعلم والتكيف مع البيئة المحيطة.…

اشترك
نبّهني عن
8 تعليقات
أحدث
أقدم الأكثر تصويتا
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات